مشاهدة النسخة كاملة : فنلندا والتعليم.. أسباب التفوق والنجاح


محمد فرج الأصفر
10-03-2015, 10:31 AM
حين تناقش الدول الإسكندنافية، ودول مجموعة الشمال عموما، نظامها التعليمي، ويدخل المعلمون والمدرسون في جدال حول الطريقة المثلى للحفاظ على تطور وتقدم مجتمعاتهم فإنهم وبلا تردد يدعون بعضهم البعض إلى "الاستفادة من النظام التعليمي الفنلندي".


دعوات ليس بغريب أن تركز على هلسنكي ونظامها التربوي والتعليمي، فهو ليس فقط يضع بلادهم في مصاف الدول المتقدمة بخلق أجيال شابة منتجة ومساهمة في نهضة البلاد ورفاهيتها، بل باتت فنلندا نموذجا في النقاش الأوروبي الداخلي حول أهمية ترابط النظام التعليمي ومخرجاته مع الحاجات المستجدة في تلك المجتمعات، سواء المعرفية منها أو تلك التي يمكن أن تغطي النقص في سوق العمل.

المستوى المهني
مؤخرا بدأ الفنلنديون بعقد دورات متتالية لمدرسيهم، من معظم المستويات، ترفع أولا من المستويات المهنية، التدريسية، والتربوية لديهم من ناحية (وهو في الواقع أمر شائع في الدول الإسكندنافية عموماً إلى لحظة تقاعد المدرسين) ثم تعطيهم فكرة شاملة عن الإصلاحات التي تدخلها البلاد على نظامها التعليمي هذا العام.

ما تريد فنلندا القيام به هو إصلاح جذري يعتمد باختصار على الاستعاضة عن مواد التدريس، مثلا اللغة الإنجليزية والرياضيات والتاريخ، بما يطلقون عليه "المواضيع". تلك الفكرة ترتبط بإعداد الطلاب والتلاميذ جيدا لسوق العمل.
معظم تلاميذ فنلندا مثلا يعرفون استخدام الكومبيوتر بشكل جيد جدا، والتطور الحاصل في القطاعات البنكية وغيرها من تلك التي تعتمد على الحواسيب لا يتطلب الإبقاء على ذات التدريس النمطي السابق برأي مسؤولي قطاع التعليم في تلك البلاد.
مع هذه الإصلاحات يأمل الفنلنديون مواكبة التغير السريع في حاجات المجتمع، بحسب ما يبرره الاختصاصيون في مجال الإصلاح.


ففي مجال التدريب المهني سيتم الاعتماد على موضوع الخدمة في الكافتيريا على سبيل المثال، وهذا يتطلب إجادة الرياضيات وتعلمها كموضوع إلى جانب تعلم وممارسة اللغة والتواصل.
إذاً، وبحسب هؤلاء، سيكون تدريس المواضيع مرتبطا أيضا بتلقي مدرسي فنلندا دورات، تم الانتهاء من 70 بالمئة منها، لمجاراة الطريقة الجديدة في التعليم.

إصلاح دائم
في العادة يتوجه الباحثون الدوليون في مجال التعليم والتربية إلى دراسة النموذج الفنلندي من بين مجموع دول الشمال، للاستفادة من التطورات التاريخية المتلاحقة التي عملت عليها السلطات الفنلندية عبر عقود من إصلاح النظام التعليمي.

فدائما ما تعيد هلسنكي أمر نجاح نظامها التعليمي إلى مسألة أساسية تستند إلى إصلاح دائم تقوم به في نظامها التعليمي اعتمادا على فلسفة "الترابط بين الأساليب التربوية والمهنية والتعليمية والسياسة العامة في تحديد الموازنات". كل ذلك يهدف بالأساس إلى إعطاء التلميذ والطالب أكبر قدر من الفائدة مما يقدمه النظام التعليمي لمصلحة البحث العلمي خدمة لهؤلاء التلاميذ ومستقبل البلاد.
لقد أنتج التعاون بين السياسيين، المشرعين، والنظام التعليمي حالة انسجام في فنلندا جعلت الاستثمار في التلاميذ والطلاب من أهم الأولويات، وبقليل من الاختلاف الحاصل عند جاراتها في السويد والدنمارك والنرويج. ففي حين انخفض الصرف على التلاميذ في تلك البلدان (بين أعوام 2002 و2013) بنسبة 12 إلى 13 بالمئة، كما هو الحال بالنسبة لكوبنهاغن، فإن فنلندا لا تناقش كثيرا مسألة الموازنات ولا الفكرة القائلة بأن المدارس الأكثر تكلفة هي الأفضل للتلاميذ.

([سجل معنا ليظهر الرابط])
الأمر الأكيد أن هلسنكي تعتمد كثيرا على الأبحاث الدائمة في ما يخص تطوير وتقدم نظامها التعليمي، وحين يصل الباحثون والخبراء إلى استنتاجات معينة متقدمين بتوجيهات يظنونها الأفضل، فإن الساسة والمشرعين يكونون عونا لهم بتقديم كل ما يلزم لتحقيق تلك النتائج التي تخلص إليها تقارير الخبراء.

إن الحوار الذي تستند إليه فنلندا بين خبراء التعليم، ومراكزها البحثية، والسياسيين والأهالي ينتج حالة من الانسجام بفعل التجارب ومخرجات العملية التربوية والتعليمية التي لمسها المجتمع الفنلندي مرة إثر مرة مع الإصلاحات التي كانت تدخل إلى النظام التعليمي.
حتى حين يقوم مدرسو التاريخ في الصفوف الابتدائية في فنلندا بإعطاء درس عن "روما" فإنهم يستخدمون، بدل الخرائط الجامدة، شاشة كبيرة وتفاعلية توضع على الأرض ويتحلق حولها الصغار، وباستخدام الإنترنت يطرح المدرسون أسئلة عن هانيبعل وجبال الألب والحيوانات التي رافقته في رحلته الطويلة.

تعليم تفاعلي
إنه تعليم تفاعلي يتلقاه التلاميذ من كل الأعراق بمن فيهم الأقليات السويدية وغيرها. وما يؤمن به المدرسون أن هذا النوع من التدريس التفاعلي يعطي التلاميذ حالة من الاسترخاء والهدوء لتعلم الأمور بدون أن يكون الصف مكتظا بعدد كبير. فهذه العملية التعليمية، التي لا تعتمد على التلقين، وبصفوف صغيرة فيها 17 تلميذا مهتمين بموضوع محدد يعتقد الفنلنديون أنها سبب من أسباب احتلال بلادهم المراتب الأولى عالميا من حيث نوعية التعليم.


الشيء الذي يعتبره المدرسون في فنلندا شبه أكيد في عملية تعليمية وتربوية ناجحة هو "الاحترام". وما يعنيه هؤلاء بالاحترام هو غياب عملية هيمنة طالب أو طلاب معينين في الصفوف، وغياب القلاقل والبلطجة وشعور تلميذ/ تلميذة بالتفوق على الآخرين والحط من قدرهم وقيمتهم. واحترام المعلمين وثقة التلاميذ بهم تعتبر أساسا لشيوع حالة من الهدوء في الصفوف واستمتاع التلاميذ بما يتلقونه من تعليم.

إعداد المعلمين، في الكليات الجامعية، أمر أساسي أيضا وفق ما يركز عليه النظام التعليمي الفنلندي. فإعداد هؤلاء وإظهار التقدير والاحترام لدورهم يجعل مكانتهم الاجتماعية، وخصوصا الثقة بهم، دافعا للأهل لكي ينقلوا أمر احترام المعلمين للتلاميذ في كل المراحل.

وبعكس ذلك يتم تأهيل المعلمين في السويد والدنمارك في معاهد ليست جامعية، وهو ما يظن الفنلنديون أنه يلعب دورا سلبيا في نظرة المجتمع والطلاب لهؤلاء المعلمين، بالرغم من أن الرواتب إلى حد ما متساوية بين الدول الثلاث.
إن الدراسة الجامعية في فنلندا لإعداد المدرسين ليست بالأمر السهل، فهذا يتطلب مجموع علامات كبيرا للقبول.

وبحسب ما يذكر الأستاذ الجامعي الدنماركي فرانس أورستيد أندرسن في كتابه "المدارس الفنلندية والدنماركية في المقارنة" فإن "إعداد المدرس الفنلندي يجري بدراسة جامعية تمتد من 4 إلى 6 سنوات، وعلامات القبول المرتفعة لا تؤهل في الحقيقة سوى 10 بالمئة للدخول إلى كلية المدرسين".

الأمر الذي يعتبره أورستيد من الأهمية بمكان في حصول هؤلاء المدرسين على تأهيل رفيع المستوى يبث نوعا من الاحترام والتقدير في المجتمع، ما ينعكس على التلاميذ الذين هم نتاج ما يدور في المجتمع الذي يكبرون فيه قبل وأثناء دخولهم المدارس.
المقارنات التي يقوم بها الإسكندنافيون مع الفنلنديين، لا تعني أن مدارسهم بذلك السوء. هم يجتهدون بالفعل لأخذ العبر وتعلم الإصلاحات التي تأتي عليها فنلندا بجرأة وبطرق غير تقليدية في نظامها التعليمي.

عابرة سبيل
01-12-2022, 08:16 PM
[سجل معنا ليظهر الرابط]